فضائل الصيام في الإسلام.
الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على أفضل المرسلين أما بعد :
فإن الصيام من العبادات العظيمة التي شرعها الله تعالى لعباده ، و قد جاءت النصوص المتكاثرة في فضل هذه الشعيرة العظيمة و أهميتها في شريعة الإسلام .
فقد دل الكتاب والسنة على عظم الصوم ومكانته بين العبادات .
قال الله تعالى في القرآن العظيم :
((إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا))[الأحزاب:35].
قال العلامة الحافظ ابن كثير –رحمه الله تعالى – في تفسيره :
(({ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ } : في الحديث الذي رواه ابن ماجه: "والصوم زكاة البدن"(1) أي: تزكيه وتطهره وتنقيه من الأخلاط الرديئة طبعا وشرعا.
قال سعيد بن جبير: من صام رمضان وثلاثة أيام من كل شهر، دخل في قوله: { وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ } ))اهـ.
و قال تعالى :
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون}[البقرة:183].
قال العلامة السعدي – رحمه الله تعالى – في تفسيره :
((يخبر تعالى بما منَّ به على عباده، بأنه فرض عليهم الصيام، كما فرضه على الأمم السابقة، لأنه من الشرائع والأوامر التي هي مصلحة للخلق في كل زمان.
وفيه تنشيط لهذه الأمة، بأنه ينبغي لكم أن تنافسوا غيركم في تكميل الأعمال، والمسارعة إلى صالح الخصال، وأنه ليس من الأمور الثقيلة، التي اختصّيتم بها.
ثم ذكر تعالى حكمته في مشروعية الصيام فقال: { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } فإن الصيام من أكبر أسباب التقوى، لأن فيه امتثال أمر الله واجتناب نهيه))اهـ.
و قد جاءت السنة النبوية بعظم الصوم وفضيلته ، ومما جاء في فضله:
1- أن للصائمين يوم القيامة باب خاص لهم يدخلون منه الجنة لا يشاركهم فيه أحد :
ففي الصحيحين و عند ابن خزيمة في صحيحه :
من حديث سهل بن سعد – رضي الله عنه – عن النبي –صلى الله عليه وسلم – قال :
((إن في الجنة بابا يقال له الريان يدخل منه الصائمون يوم القيامة ، لا يدخل منه أحد غيرهم ، يقال: أين الصائمون؟
فيقومون فيدخلون منه ، فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد)). وزاد ابن خزيمة:
((فإذا دخل آخرهم أغلق ، ومن دخل شرب ، ومن شرب لم يظمأ أبدا )).
قال الحافظ في "الفتح" :
(( الرَّيَّان ) :
بِفَتْحِ الرَّاء وَتَشْدِيد التَّحْتَانِيَّة وَزْن فَعْلَان مِنْ الرِّيّ : اِسْم عَلَم عَلَى بَاب مِنْ أَبْوَاب الْجَنَّة يَخْتَصّ بِدُخُولِ الصَّائِمِينَ مِنْهُ ، وَهُوَ مِمَّا وَقَعَتْ الْمُنَاسَبَة فِيهِ بَيْن لَفْظه وَمَعْنَاهُ ، لِأَنَّهُ مُشْتَقّ مِنْ الرِّيّ وَهُوَ مُنَاسِب لِحَالِ الصَّائِمِينَ ، وَسَيَأْتِي أَنَّ مَنْ دَخَلَهُ لَمْ يَظْمَأ .
قَالَ الْقُرْطُبِيّ : اكْتُفِيَ بِذِكْرِ الرِّيِّ عَنْ الشِّبَع لِأَنَّهُ يَدُلّ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَسْتَلْزِمهُ ، قُلْت: أَوْ لِكَوْنِهِ أَشَقّ عَلَى الصَّائِم مِنْ الْجُوع )).
وقال :
(قَوْله : ( إِنَّ فِي الْجَنَّة بَابًا ) :
... قُلْت : وَقَدْ جَاءَ الْحَدِيث مِنْ وَجْه آخَر بِلَفْظِ " إِنَّ لِلْجَنَّةِ ثَمَانِيَة أَبْوَاب ، مِنْهَا بَاب يُسَمَّى الرَّيَّان لَا يَدْخُلهُ إِلَّا الصَّائِمُونَ " . أَخْرَجَهُ هَكَذَا الْجَوْزَقِيّ مِنْ طَرِيق أَبِي غَسَّان عَنْ أَبِي حَازِم ، وَهُوَ لِلْبُخَارِيِّ مِنْ هَذَا الْوَجْه فِي بَدْء الْخَلْق ، لَكِنْ قَالَ " فِي الْجَنَّة ثَمَانِيَة أَبْوَاب " )اهـ.
و هذه الأبواب الثمانية عددها الحافظ في كتب المناقب من الصحيح في فضائل الصديق –رضي الله عنه- :
قال الحافظ :
) وَمَعْنَى الْحَدِيث أَنَّكُلّ عَامِل يُدْعَى مِنْ بَاب ذَلِكَ الْعَمَل ، وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ صَرِيحًا مِنْ وَجْه آخَر عَنْ أَبِي هُرَيْرَة " لِكُلِّ عَامِل بَاب مِنْ أَبْوَاب الْجَنَّة يُدْعَى مِنْهُ بِذَلِكَ الْعَمَل " أَخْرَجَهُ أَحْمَد وَابْن أَبِي شَيْبَة بِإِسْنَادٍ صَحِيح .
قَوْله : ( فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْل الصَّلَاة دُعِيَ مِنْ بَاب الصَّلَاة)
وَقَعَ فِي الْحَدِيث ذِكْر أَرْبَعَة أَبْوَاب مِنْ أَبْوَاب الْجَنَّة ، وَتَقَدَّمَ فِي أَوَائِل الْجِهَاد " وَإِنَّ أَبْوَاب الْجَنَّة ثَمَانِيَة " وَبَقِيَ مِنْ الْأَرْكَان الْحَجّ فَلَهُ بَاب بِلَا شَكّ ، وَأَمَّا الثَّلَاثَة الْأُخْرَى:فَمِنْهَا بَاب الْكَاظِمِينَ الْغَيْظ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاس رَوَاهُ أَحْمَد بْن حَنْبَل عَنْ رَوْح بْن عُبَادَةَ عَنْ أَشْعَث عَنْ الْحَسَن مُرْسَلًا:
" إِنَّ لِلَّهِ بَابًا فِي الْجَنَّة لَا يَدْخُلهُ إِلَّا مَنْ عَفَا عَنْ مَظْلِمَة".وَمِنْهَا: الْبَاب الْأَيْمَن وَهُوَ بَاب الْمُتَوَكِّلِينَ الَّذِي يَدْخُل مِنْهُ مَنْ لَا حِسَاب عَلَيْهِ وَلَا عَذَاب .وَأَمَّا الثَّالِث: فَلَعَلَّهُ بَاب الذِّكْر ، فَإِنَّ عِنْد التِّرْمِذِيّ مَا يُومِئ إِلَيْهِ ،
وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون بَاب الْعِلْم وَاَللَّه أَعْلَم ، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون بِالْأَبْوَابِ الَّتِي يُدْعَى مِنْهَا أَبْوَاب مِنْ دَاخِل أَبْوَاب الْجَنَّة الْأَصْلِيَّة لِأَنَّ الْأَعْمَال الصَّالِحَة أَكْثَر عَدَدًا مِنْ ثَمَانِيَة ، وَاللَّهُ أَعْلَم)اهـ.
2- و من فضائل الصوم : أنه سبب لدخول الجنة :
فعن أبي أمامة –رضي الله عنه-واسمه صُدَي بن عجلان الباهلي – قال: قلت: يا رسول الله ، دُلّني على عمل أدخل به الجَنّة .
قال : (عليك بالصوم فإنه لا مثل له).
رواه أحمد و النسائي وابن حبان والحاكم.
و قد صححه العلامة الألباني في (صحيح الجامع).
قال المُناوي في (فيض القدير) :
((عليك بالصوم) أي الزمه (فإنه لا مثل له) وفي رواية أبي نعيم بدله: (فإنه لا عدل له).
إذ هو يقوي القلب والفطنة ، ويزيد في الذكاء ومكارم الأخلاق ، وإذا صام المرء اعتاد قلة الأكل والشرب ، وانقمعت شهواته وانقلعت مواد الذنوب من أصلها ، ودخل في الخير من كل وجه ، وأحاطت به الحسنات من كل جهة)اهـ.
3- و من فضائله أنه يشفع لصاحبه يوم القيامة ،
فقد أخرج أحمد و الحاكم بسند حسن عن عبد الله بن عمرو –رضي الله عنهما- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال :
((الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة ، يقول الصيام: أي رب إني منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه ، ويقول القرآن: رب منعته النوم بالليل فشفعني فيه فيشفعان)).
و صححه العلامة الألباني في (صحيح الجامع).
قال الإمام الترمذي في جامعه-في حديث البقرة وآل عمران، و أنهما تأتيان كأنهما غيايتان تجادلان عن صاحبهما-:
((وَمَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ يَجِيءُ ثَوَابُ قِرَاءَتِهِ ، كَذَا فَسَّرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ هَذَا الْحَدِيثَ وَمَا يُشْبِهُ هَذَا مِنْ الْأَحَادِيثِ أَنَّهُ يَجِيءُ ثَوَابُ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ ، وَفِي حَدِيثِ النَّوَّاسِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَدُلُّ عَلَى مَا فَسَّرُوا إِذْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَهْلُهُ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَفِي هَذَا دَلَالَةٌ أَنَّهُ يَجِيءُ ثَوَابُ الْعَمَلِ))اهـ.
و قال المُناوي في (فيض القدير) :
((بضم الياء وشد الفاء أي : يُشفّعهما الله تعالى فيه ويدخله الجنة ؛ وهذا القول يحتمل أنه حقيقة بأن يجسد ثوابهما ويخلق الله فيه النطق، (والله على كل شئ قدير..))اهـ.
4- ومن فضائله أن من صام وهو خارج في سبيل الله تعالى أي: مجاهدا في سبيل الله تعالى ، فإن الله تعالى يجعل بينه و بين النار خندقا كما بين السماء والأرض ، و يباعد وجهه عن النار سبعين خريفا:
أخرج البخاري و مسلم-واللفظ لمسلم- عن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه- عن النبي –صلى الله عليه وسلم – قال:
((ما من عبد يصوم يوما في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفا)).ورواه أيضا النسائي و الترمذي.
و خرج الترمذي في جامعه ، و غيره –وهو صحيح بمجموع الطرق- عن أبي أمامة –رضي الله عنه- عن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال :
(( من صام يوما في سبيل الله جعل الله بينه وبين النار خندقا كما بين السماء والأرض )).
و صححه المُحَدّث الألباني في (صحيح الجامع).
قال المباركفوري في (تحفة الأحوذي) :
(( قَوْلُهُ : ( مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ )
قَالَ اِبْنُ الْجَوْزِيِّ : إِذَا أُطْلِقَ ذِكْرُ سَبِيلِ اللَّهِ فَالْمُرَادُ بِهِ الْجِهَادُ .
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ : سَبِيلُ اللَّهِ طَاعَةُ اللَّهِ ، فَالْمُرَادُ مَنْ صَامَ قَاصِدًا وَجْهَ اللَّهِ . قَالَ الْحَافِظُ : وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ ، ثُمَّ وَجَدْته فِي فَوَائِدِ أَبِي طَاهِرٍ الذُّهْلِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ اللَّيْثِيِّ عَنْ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ : " مَا مِنْ مُرَابِطٍ يُرَابِطُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَصُومُ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ" الْحَدِيثَ .
قَالَ اِبْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ : الْعُرْفُ الْأَكْثَرُ اِسْتِعْمَالُهُ فِي الْجِهَادِ ، فَإِنْ حُمِلَ عَلَيْهِ كَانَتْ الْفَضِيلَةُ لِاجْتِمَاعِ الْعِبَادَتَيْنِ ، قَالَ : وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِسَبِيلِ اللَّهِ طَاعَتُهُ كَيْفَ كَانَتْ ، وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ وَلَا يُعَارِضُ ذَلِكَ أَنَّ الْفِطْرَ فِي الْجِهَادِ أَوْلَى لِأَنَّ الصَّائِمَ يَضْعُفُ عَنْ اللِّقَاءِ لِأَنَّ الْفَضْلَ الْمَذْكُورَ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَخْشَ ضَعْفًا وَلَا سِيَّمَا مَنْ اِعْتَادَ بِهِ فَصَارَ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ النِّسْبِيَّةِ ، فَمَنْ لَمْ يُضْعِفْهُ الصَّوْمُ عَنْ الْجِهَادِ فَالصَّوْمُ فِي حَقِّهِ أَفْضَلُ لِيَجْمَعَ بَيْنَ الْفَضِيلَتَيْنِ اِنْتَهَى))اهـ.
وقال النووي –رحمه الله تعالى – في (شرح صحيح مسلم) :
((فِيهِ : فَضِيلَةُ الصِّيَامِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ لَا يَتَضَرَّرُ بِهِ ، وَلَا يُفَوِّتُ بِهِ حَقًّا ، وَلَا يَخْتَلُّ بِهِ قِتَاله وَلَا غَيْرُهُ مِنْ مُهِمَّاتِ غَزْوِهِ ، وَمَعْنَاهُ : الْمُبَاعَدَةُ عَنْ النَّارِ ، وَالْمُعَافَاة مِنْهَا ، وَالْخَرِيف : السَنَة ، وَالْمُرَاد : سَبْعِينَ سَنَةً ))اهـ.
قال العلامة محمد بن صالح العثيمين في (شرح بلوغ المرام) :
(( " في سبيل الله " :
أي: الجهاد في سبيل الله ، و ليس المراد بذلك إخلاص النية كما يتوهمه بعض الناس ، لأن إخلاص النية لا يعبر عنها بهذا التعبير ، بل يقال : من صام يوما يبتغي به وجه الله ، ولا يقول: في سبيل الله ))اهـ.
و هذا الذي رجّحه العلامة ابن عثيمين هو الأقرب ، والله أعلم.
وقوله(سبعين خريفا) :
قال الحافظ في الفتح:
(قَوْله : ( سَبْعِينَ خَرِيفًا ) :
الْخَرِيف زَمَان مَعْلُوم مِنْ السَّنَةِ وَالْمُرَاد بِهِ هُنَا اَلْعَام ، وَتَخْصِيص اَلْخَرِيفِ بِالذِّكْرِ دُونَ بَقِيَّةِ اَلْفُصُولِ - اَلصَّيْف وَالشِّتَاء وَالرَّبِيع - لِأَنَّ اَلْخَرِيفَ أَزْكَى اَلْفُصُول لِكَوْنِهِ يُجْنَى فِيهِ اَلثِّمَارُ)اهـ.
هذا في فضائل الصوم بعامة ، و قد جاءت الفضائل في صوم شهر رمضان خاصة ، فمن فضائل هذا الشهر المبارك :
1- أن هذا الشهر العظيم ركن من أركان الإسلام العظيمة التي يقوم عليها هذا الدين ، ففي الصحيحين من حديث ابن عمر –رضي الله عنهما- عن النبي –صلى الله عليه وسلم - أنه قال :
((بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وحج البيت)).
2- و من فضائله أن من صامه إيمانا واحتسابا غُفر له ما تقدم من ذنبه :
ففي الصحيحين عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن النبي –صلى الله عليه وسلم – قال :
(( من صام رمضان إيمانا و احتسابا غُفر له ما تقدم من ذنبه )) .
والذي عليه جمهور العلماء أن المقصود من غفران الذنوب هي الصغائر ، و أما الكبائر فلابد فيها من التوبة .
ومعنى صومه (إيمانا واحتسابا ) :
أي: تصديقا بفرضيته ، ورغبة في ثوابه ، غير كاره لصيامه.
قال ابن بطال في (شرح صحيح البخاري) :
((إيمانًا وإحتسابًا - يعنى: مصدقًا بفرض صيامه، ومصدقًا بالثواب على قيامه وصيامه ومحتسبًا مريدًا بذلك وجه الله، بريئًا من الرياء والسمعة، راجيًا عليه ثوابه))اهـ.
3- و من فضائل هذا الشهر العظيم :
أن لله تعالى في كل يوم وليلة من هذا الشهر عتقاء من النار ، و دعوة مستجابة لكل مسلم.
ففي المسند و عند البزار من حديث جابر –رضي الله عنه – عن النبي –صلى الله عليه وسلم – أنه قال :
((إِنَّ لِلَّهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ عُتَقَاءَ من النار في شهر رمضان ، و إن لِكُلِّ مسلم دَعْوَةً مُسْتَجَابَةً يدعو بها فيستجاب له)).
وصححه العلامة الألباني في (صحيح الترغيب والترهيب).
قال العلامة النووي في (شرح صحيح مسلم ) :
(قَالَ أَهْل اللُّغَة : الْعِتْق الْحُرِّيَّة . يُقَال مِنْهُ : عَتَقَ يَعْتِق عِتْقًا بِكَسْرِ الْعَيْن وَعِتْقًا بِفَتْحِهَا أَيْضًا ، حَكَاهُ صَاحِب الْمُحْكَم وَغَيْره . وَعَتَاقًا وَعَتَاقَة فَهُوَ عَتِيق وَعَاتِق أَيْضًا حَكَاهُ الْجَوْهَرِيّ وَهُمْ عُتَقَاء وَأَعْتَقَهُ فَهُوَ مُعْتَق ، وَهُمْ عُتَقَاء ، وَأَمَة عَتِيق وَعَتِيقَة وَإِمَاء عَتَائِق ، وَحَلَفَ بِالْعَتَاقِ أَيْ الْإِعْتَاق . قَالَ الْأَزْهَرِيّ : هُوَ مُشْتَقّ مِنْ قَوْلهمْ : عَتَقَ الْفَرَس إِذَا سَبَقَ وَنَجَا ، وَعَتَقَ الْفَرْخ طَارَ وَاسْتَقَلَّ ، لِأَنَّ الْعَبْد يَتَخَلَّص بِالْعِتْقِ وَيَذْهَب حَيْثُ شَاءَ . قَالَ الْأَزْهَرِيّ وَغَيْره : وَإِنَّمَا قِيلَ لِمَنْ أَعْتَقَ نَسَمَة أَنَّهُ أَعْتَقَ رَقَبَة وَفَكَّ رَقَبَة فَخُصَّتْ الرَّقَبَة دُون سَائِر الْأَعْضَاء مَعَ أَنَّ الْعِتْق يَتَنَاوَل الْجَمِيع ، لِأَنَّ حُكْم السَّيِّد عَلَيْهِ وَمِلْكه لَهُ كَحَبْلٍ فِي رَقَبَة الْعَبْد وَكَالْغَلِّ الْمَانِع لَهُ مِنْ الْخُرُوج ، فَإِذَا أَعْتَقَ فَكَأَنَّهُ أُطْلِقَتْ رَقَبَته مِنْ ذَلِكَ وَاَللَّه أَعْلَم )اهـ.
قال المناوي في (فيض القدير) :
((وهذه منقبة عظيمة لرمضان وصوامه وللدعاء والداعي))اهـ.
و الله أعلم.
___________________________________
(1) رواه ابن ماجه بلفظ : (لكل شيء زكاة وزكاة الجسد الصوم).
و إسناده ضعيف فيه موسى بن عبيدة الربذي متفق على ضعفه ، و الحديث ضعفه العلامة الألباني في الضعيفة(1329) وغيره من كتبه.
الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على أفضل المرسلين أما بعد :
فإن الصيام من العبادات العظيمة التي شرعها الله تعالى لعباده ، و قد جاءت النصوص المتكاثرة في فضل هذه الشعيرة العظيمة و أهميتها في شريعة الإسلام .
فقد دل الكتاب والسنة على عظم الصوم ومكانته بين العبادات .
قال الله تعالى في القرآن العظيم :
((إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا))[الأحزاب:35].
قال العلامة الحافظ ابن كثير –رحمه الله تعالى – في تفسيره :
(({ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ } : في الحديث الذي رواه ابن ماجه: "والصوم زكاة البدن"(1) أي: تزكيه وتطهره وتنقيه من الأخلاط الرديئة طبعا وشرعا.
قال سعيد بن جبير: من صام رمضان وثلاثة أيام من كل شهر، دخل في قوله: { وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ } ))اهـ.
و قال تعالى :
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون}[البقرة:183].
قال العلامة السعدي – رحمه الله تعالى – في تفسيره :
((يخبر تعالى بما منَّ به على عباده، بأنه فرض عليهم الصيام، كما فرضه على الأمم السابقة، لأنه من الشرائع والأوامر التي هي مصلحة للخلق في كل زمان.
وفيه تنشيط لهذه الأمة، بأنه ينبغي لكم أن تنافسوا غيركم في تكميل الأعمال، والمسارعة إلى صالح الخصال، وأنه ليس من الأمور الثقيلة، التي اختصّيتم بها.
ثم ذكر تعالى حكمته في مشروعية الصيام فقال: { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } فإن الصيام من أكبر أسباب التقوى، لأن فيه امتثال أمر الله واجتناب نهيه))اهـ.
و قد جاءت السنة النبوية بعظم الصوم وفضيلته ، ومما جاء في فضله:
1- أن للصائمين يوم القيامة باب خاص لهم يدخلون منه الجنة لا يشاركهم فيه أحد :
ففي الصحيحين و عند ابن خزيمة في صحيحه :
من حديث سهل بن سعد – رضي الله عنه – عن النبي –صلى الله عليه وسلم – قال :
((إن في الجنة بابا يقال له الريان يدخل منه الصائمون يوم القيامة ، لا يدخل منه أحد غيرهم ، يقال: أين الصائمون؟
فيقومون فيدخلون منه ، فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد)). وزاد ابن خزيمة:
((فإذا دخل آخرهم أغلق ، ومن دخل شرب ، ومن شرب لم يظمأ أبدا )).
قال الحافظ في "الفتح" :
(( الرَّيَّان ) :
بِفَتْحِ الرَّاء وَتَشْدِيد التَّحْتَانِيَّة وَزْن فَعْلَان مِنْ الرِّيّ : اِسْم عَلَم عَلَى بَاب مِنْ أَبْوَاب الْجَنَّة يَخْتَصّ بِدُخُولِ الصَّائِمِينَ مِنْهُ ، وَهُوَ مِمَّا وَقَعَتْ الْمُنَاسَبَة فِيهِ بَيْن لَفْظه وَمَعْنَاهُ ، لِأَنَّهُ مُشْتَقّ مِنْ الرِّيّ وَهُوَ مُنَاسِب لِحَالِ الصَّائِمِينَ ، وَسَيَأْتِي أَنَّ مَنْ دَخَلَهُ لَمْ يَظْمَأ .
قَالَ الْقُرْطُبِيّ : اكْتُفِيَ بِذِكْرِ الرِّيِّ عَنْ الشِّبَع لِأَنَّهُ يَدُلّ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَسْتَلْزِمهُ ، قُلْت: أَوْ لِكَوْنِهِ أَشَقّ عَلَى الصَّائِم مِنْ الْجُوع )).
وقال :
(قَوْله : ( إِنَّ فِي الْجَنَّة بَابًا ) :
... قُلْت : وَقَدْ جَاءَ الْحَدِيث مِنْ وَجْه آخَر بِلَفْظِ " إِنَّ لِلْجَنَّةِ ثَمَانِيَة أَبْوَاب ، مِنْهَا بَاب يُسَمَّى الرَّيَّان لَا يَدْخُلهُ إِلَّا الصَّائِمُونَ " . أَخْرَجَهُ هَكَذَا الْجَوْزَقِيّ مِنْ طَرِيق أَبِي غَسَّان عَنْ أَبِي حَازِم ، وَهُوَ لِلْبُخَارِيِّ مِنْ هَذَا الْوَجْه فِي بَدْء الْخَلْق ، لَكِنْ قَالَ " فِي الْجَنَّة ثَمَانِيَة أَبْوَاب " )اهـ.
و هذه الأبواب الثمانية عددها الحافظ في كتب المناقب من الصحيح في فضائل الصديق –رضي الله عنه- :
قال الحافظ :
) وَمَعْنَى الْحَدِيث أَنَّكُلّ عَامِل يُدْعَى مِنْ بَاب ذَلِكَ الْعَمَل ، وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ صَرِيحًا مِنْ وَجْه آخَر عَنْ أَبِي هُرَيْرَة " لِكُلِّ عَامِل بَاب مِنْ أَبْوَاب الْجَنَّة يُدْعَى مِنْهُ بِذَلِكَ الْعَمَل " أَخْرَجَهُ أَحْمَد وَابْن أَبِي شَيْبَة بِإِسْنَادٍ صَحِيح .
قَوْله : ( فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْل الصَّلَاة دُعِيَ مِنْ بَاب الصَّلَاة)
وَقَعَ فِي الْحَدِيث ذِكْر أَرْبَعَة أَبْوَاب مِنْ أَبْوَاب الْجَنَّة ، وَتَقَدَّمَ فِي أَوَائِل الْجِهَاد " وَإِنَّ أَبْوَاب الْجَنَّة ثَمَانِيَة " وَبَقِيَ مِنْ الْأَرْكَان الْحَجّ فَلَهُ بَاب بِلَا شَكّ ، وَأَمَّا الثَّلَاثَة الْأُخْرَى:فَمِنْهَا بَاب الْكَاظِمِينَ الْغَيْظ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاس رَوَاهُ أَحْمَد بْن حَنْبَل عَنْ رَوْح بْن عُبَادَةَ عَنْ أَشْعَث عَنْ الْحَسَن مُرْسَلًا:
" إِنَّ لِلَّهِ بَابًا فِي الْجَنَّة لَا يَدْخُلهُ إِلَّا مَنْ عَفَا عَنْ مَظْلِمَة".وَمِنْهَا: الْبَاب الْأَيْمَن وَهُوَ بَاب الْمُتَوَكِّلِينَ الَّذِي يَدْخُل مِنْهُ مَنْ لَا حِسَاب عَلَيْهِ وَلَا عَذَاب .وَأَمَّا الثَّالِث: فَلَعَلَّهُ بَاب الذِّكْر ، فَإِنَّ عِنْد التِّرْمِذِيّ مَا يُومِئ إِلَيْهِ ،
وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون بَاب الْعِلْم وَاَللَّه أَعْلَم ، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون بِالْأَبْوَابِ الَّتِي يُدْعَى مِنْهَا أَبْوَاب مِنْ دَاخِل أَبْوَاب الْجَنَّة الْأَصْلِيَّة لِأَنَّ الْأَعْمَال الصَّالِحَة أَكْثَر عَدَدًا مِنْ ثَمَانِيَة ، وَاللَّهُ أَعْلَم)اهـ.
2- و من فضائل الصوم : أنه سبب لدخول الجنة :
فعن أبي أمامة –رضي الله عنه-واسمه صُدَي بن عجلان الباهلي – قال: قلت: يا رسول الله ، دُلّني على عمل أدخل به الجَنّة .
قال : (عليك بالصوم فإنه لا مثل له).
رواه أحمد و النسائي وابن حبان والحاكم.
و قد صححه العلامة الألباني في (صحيح الجامع).
قال المُناوي في (فيض القدير) :
((عليك بالصوم) أي الزمه (فإنه لا مثل له) وفي رواية أبي نعيم بدله: (فإنه لا عدل له).
إذ هو يقوي القلب والفطنة ، ويزيد في الذكاء ومكارم الأخلاق ، وإذا صام المرء اعتاد قلة الأكل والشرب ، وانقمعت شهواته وانقلعت مواد الذنوب من أصلها ، ودخل في الخير من كل وجه ، وأحاطت به الحسنات من كل جهة)اهـ.
3- و من فضائله أنه يشفع لصاحبه يوم القيامة ،
فقد أخرج أحمد و الحاكم بسند حسن عن عبد الله بن عمرو –رضي الله عنهما- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال :
((الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة ، يقول الصيام: أي رب إني منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه ، ويقول القرآن: رب منعته النوم بالليل فشفعني فيه فيشفعان)).
و صححه العلامة الألباني في (صحيح الجامع).
قال الإمام الترمذي في جامعه-في حديث البقرة وآل عمران، و أنهما تأتيان كأنهما غيايتان تجادلان عن صاحبهما-:
((وَمَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ يَجِيءُ ثَوَابُ قِرَاءَتِهِ ، كَذَا فَسَّرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ هَذَا الْحَدِيثَ وَمَا يُشْبِهُ هَذَا مِنْ الْأَحَادِيثِ أَنَّهُ يَجِيءُ ثَوَابُ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ ، وَفِي حَدِيثِ النَّوَّاسِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَدُلُّ عَلَى مَا فَسَّرُوا إِذْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَهْلُهُ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَفِي هَذَا دَلَالَةٌ أَنَّهُ يَجِيءُ ثَوَابُ الْعَمَلِ))اهـ.
و قال المُناوي في (فيض القدير) :
((بضم الياء وشد الفاء أي : يُشفّعهما الله تعالى فيه ويدخله الجنة ؛ وهذا القول يحتمل أنه حقيقة بأن يجسد ثوابهما ويخلق الله فيه النطق، (والله على كل شئ قدير..))اهـ.
4- ومن فضائله أن من صام وهو خارج في سبيل الله تعالى أي: مجاهدا في سبيل الله تعالى ، فإن الله تعالى يجعل بينه و بين النار خندقا كما بين السماء والأرض ، و يباعد وجهه عن النار سبعين خريفا:
أخرج البخاري و مسلم-واللفظ لمسلم- عن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه- عن النبي –صلى الله عليه وسلم – قال:
((ما من عبد يصوم يوما في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفا)).ورواه أيضا النسائي و الترمذي.
و خرج الترمذي في جامعه ، و غيره –وهو صحيح بمجموع الطرق- عن أبي أمامة –رضي الله عنه- عن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال :
(( من صام يوما في سبيل الله جعل الله بينه وبين النار خندقا كما بين السماء والأرض )).
و صححه المُحَدّث الألباني في (صحيح الجامع).
قال المباركفوري في (تحفة الأحوذي) :
(( قَوْلُهُ : ( مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ )
قَالَ اِبْنُ الْجَوْزِيِّ : إِذَا أُطْلِقَ ذِكْرُ سَبِيلِ اللَّهِ فَالْمُرَادُ بِهِ الْجِهَادُ .
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ : سَبِيلُ اللَّهِ طَاعَةُ اللَّهِ ، فَالْمُرَادُ مَنْ صَامَ قَاصِدًا وَجْهَ اللَّهِ . قَالَ الْحَافِظُ : وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ ، ثُمَّ وَجَدْته فِي فَوَائِدِ أَبِي طَاهِرٍ الذُّهْلِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ اللَّيْثِيِّ عَنْ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ : " مَا مِنْ مُرَابِطٍ يُرَابِطُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَصُومُ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ" الْحَدِيثَ .
قَالَ اِبْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ : الْعُرْفُ الْأَكْثَرُ اِسْتِعْمَالُهُ فِي الْجِهَادِ ، فَإِنْ حُمِلَ عَلَيْهِ كَانَتْ الْفَضِيلَةُ لِاجْتِمَاعِ الْعِبَادَتَيْنِ ، قَالَ : وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِسَبِيلِ اللَّهِ طَاعَتُهُ كَيْفَ كَانَتْ ، وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ وَلَا يُعَارِضُ ذَلِكَ أَنَّ الْفِطْرَ فِي الْجِهَادِ أَوْلَى لِأَنَّ الصَّائِمَ يَضْعُفُ عَنْ اللِّقَاءِ لِأَنَّ الْفَضْلَ الْمَذْكُورَ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَخْشَ ضَعْفًا وَلَا سِيَّمَا مَنْ اِعْتَادَ بِهِ فَصَارَ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ النِّسْبِيَّةِ ، فَمَنْ لَمْ يُضْعِفْهُ الصَّوْمُ عَنْ الْجِهَادِ فَالصَّوْمُ فِي حَقِّهِ أَفْضَلُ لِيَجْمَعَ بَيْنَ الْفَضِيلَتَيْنِ اِنْتَهَى))اهـ.
وقال النووي –رحمه الله تعالى – في (شرح صحيح مسلم) :
((فِيهِ : فَضِيلَةُ الصِّيَامِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ لَا يَتَضَرَّرُ بِهِ ، وَلَا يُفَوِّتُ بِهِ حَقًّا ، وَلَا يَخْتَلُّ بِهِ قِتَاله وَلَا غَيْرُهُ مِنْ مُهِمَّاتِ غَزْوِهِ ، وَمَعْنَاهُ : الْمُبَاعَدَةُ عَنْ النَّارِ ، وَالْمُعَافَاة مِنْهَا ، وَالْخَرِيف : السَنَة ، وَالْمُرَاد : سَبْعِينَ سَنَةً ))اهـ.
قال العلامة محمد بن صالح العثيمين في (شرح بلوغ المرام) :
(( " في سبيل الله " :
أي: الجهاد في سبيل الله ، و ليس المراد بذلك إخلاص النية كما يتوهمه بعض الناس ، لأن إخلاص النية لا يعبر عنها بهذا التعبير ، بل يقال : من صام يوما يبتغي به وجه الله ، ولا يقول: في سبيل الله ))اهـ.
و هذا الذي رجّحه العلامة ابن عثيمين هو الأقرب ، والله أعلم.
وقوله(سبعين خريفا) :
قال الحافظ في الفتح:
(قَوْله : ( سَبْعِينَ خَرِيفًا ) :
الْخَرِيف زَمَان مَعْلُوم مِنْ السَّنَةِ وَالْمُرَاد بِهِ هُنَا اَلْعَام ، وَتَخْصِيص اَلْخَرِيفِ بِالذِّكْرِ دُونَ بَقِيَّةِ اَلْفُصُولِ - اَلصَّيْف وَالشِّتَاء وَالرَّبِيع - لِأَنَّ اَلْخَرِيفَ أَزْكَى اَلْفُصُول لِكَوْنِهِ يُجْنَى فِيهِ اَلثِّمَارُ)اهـ.
هذا في فضائل الصوم بعامة ، و قد جاءت الفضائل في صوم شهر رمضان خاصة ، فمن فضائل هذا الشهر المبارك :
1- أن هذا الشهر العظيم ركن من أركان الإسلام العظيمة التي يقوم عليها هذا الدين ، ففي الصحيحين من حديث ابن عمر –رضي الله عنهما- عن النبي –صلى الله عليه وسلم - أنه قال :
((بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وحج البيت)).
2- و من فضائله أن من صامه إيمانا واحتسابا غُفر له ما تقدم من ذنبه :
ففي الصحيحين عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن النبي –صلى الله عليه وسلم – قال :
(( من صام رمضان إيمانا و احتسابا غُفر له ما تقدم من ذنبه )) .
والذي عليه جمهور العلماء أن المقصود من غفران الذنوب هي الصغائر ، و أما الكبائر فلابد فيها من التوبة .
ومعنى صومه (إيمانا واحتسابا ) :
أي: تصديقا بفرضيته ، ورغبة في ثوابه ، غير كاره لصيامه.
قال ابن بطال في (شرح صحيح البخاري) :
((إيمانًا وإحتسابًا - يعنى: مصدقًا بفرض صيامه، ومصدقًا بالثواب على قيامه وصيامه ومحتسبًا مريدًا بذلك وجه الله، بريئًا من الرياء والسمعة، راجيًا عليه ثوابه))اهـ.
3- و من فضائل هذا الشهر العظيم :
أن لله تعالى في كل يوم وليلة من هذا الشهر عتقاء من النار ، و دعوة مستجابة لكل مسلم.
ففي المسند و عند البزار من حديث جابر –رضي الله عنه – عن النبي –صلى الله عليه وسلم – أنه قال :
((إِنَّ لِلَّهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ عُتَقَاءَ من النار في شهر رمضان ، و إن لِكُلِّ مسلم دَعْوَةً مُسْتَجَابَةً يدعو بها فيستجاب له)).
وصححه العلامة الألباني في (صحيح الترغيب والترهيب).
قال العلامة النووي في (شرح صحيح مسلم ) :
(قَالَ أَهْل اللُّغَة : الْعِتْق الْحُرِّيَّة . يُقَال مِنْهُ : عَتَقَ يَعْتِق عِتْقًا بِكَسْرِ الْعَيْن وَعِتْقًا بِفَتْحِهَا أَيْضًا ، حَكَاهُ صَاحِب الْمُحْكَم وَغَيْره . وَعَتَاقًا وَعَتَاقَة فَهُوَ عَتِيق وَعَاتِق أَيْضًا حَكَاهُ الْجَوْهَرِيّ وَهُمْ عُتَقَاء وَأَعْتَقَهُ فَهُوَ مُعْتَق ، وَهُمْ عُتَقَاء ، وَأَمَة عَتِيق وَعَتِيقَة وَإِمَاء عَتَائِق ، وَحَلَفَ بِالْعَتَاقِ أَيْ الْإِعْتَاق . قَالَ الْأَزْهَرِيّ : هُوَ مُشْتَقّ مِنْ قَوْلهمْ : عَتَقَ الْفَرَس إِذَا سَبَقَ وَنَجَا ، وَعَتَقَ الْفَرْخ طَارَ وَاسْتَقَلَّ ، لِأَنَّ الْعَبْد يَتَخَلَّص بِالْعِتْقِ وَيَذْهَب حَيْثُ شَاءَ . قَالَ الْأَزْهَرِيّ وَغَيْره : وَإِنَّمَا قِيلَ لِمَنْ أَعْتَقَ نَسَمَة أَنَّهُ أَعْتَقَ رَقَبَة وَفَكَّ رَقَبَة فَخُصَّتْ الرَّقَبَة دُون سَائِر الْأَعْضَاء مَعَ أَنَّ الْعِتْق يَتَنَاوَل الْجَمِيع ، لِأَنَّ حُكْم السَّيِّد عَلَيْهِ وَمِلْكه لَهُ كَحَبْلٍ فِي رَقَبَة الْعَبْد وَكَالْغَلِّ الْمَانِع لَهُ مِنْ الْخُرُوج ، فَإِذَا أَعْتَقَ فَكَأَنَّهُ أُطْلِقَتْ رَقَبَته مِنْ ذَلِكَ وَاَللَّه أَعْلَم )اهـ.
قال المناوي في (فيض القدير) :
((وهذه منقبة عظيمة لرمضان وصوامه وللدعاء والداعي))اهـ.
و الله أعلم.
___________________________________
(1) رواه ابن ماجه بلفظ : (لكل شيء زكاة وزكاة الجسد الصوم).
و إسناده ضعيف فيه موسى بن عبيدة الربذي متفق على ضعفه ، و الحديث ضعفه العلامة الألباني في الضعيفة(1329) وغيره من كتبه.